العصر الحجري القديم والحديث في عمان

 

تشير بعض الدراسات إلى أن قدوم الإنسان إلى شبه الجزيرة العربية كان على الأرجح من شرق أفريقيا في نحو 1.3 مليون سنة وأن طريق انتقاله خلال تلك الفترة يقع في إطار احتمالين أحدهما عبر شمال شرق أفريقيا بمحاذاة نهر النيل إلى سيناء وصولا إلى شمال شرق الجزيرة العربية 

ومنها انتقل إلى جنوب الجزيرة  وبلاد الشام والآخر هو امكانية اجتيازه مضيق باب المندب وعبور البحر باتجاه جنوب غرب الجزيرة العربية وهما احتمالان ما زالا موضع احتمال بين الدراسين.

إن ما تم من أعمال ميدانية حتى الآن لا يكشف بجلاء عن أي دليل لاستيطان بشري خلال حقبة العصر الحجري القديم الأسفل والأوسط على امتداد ساحل عُمان غير أن الملاحظات التي كشفت عنها الأعمال الميدانية تحتاج إلى المزيد من التحري للتأكد منها قبل إعطاء أي تفسير حول عدم وجود هذه المواقع ، ويربط بعض الدارسين الأسباب وراء عدم العثور على مواقع تعود لهذين العصرين في الإقليم بظاهرة الظروف المناخية المتغيرة التي شهدتها المنطقة خلال الفترة الواقعة بن 14000- 4000 ق.م وهي فترة تكوين حوض الخليج العربي وارتفاع مستوى سطح المياه إلى مستواه الحالي، حيث يعتقد بأن الكثير من المواقع الحجرية قد طمرت خلال فترة تذبذب مستوى البحر وتباين الفترات المناخية خلال تلك العصور.ولكن يبدو أن هناك مواقع داخلية ظلت بمنأى عن تقلبات ظروف المناخ وتغير مستوى سطح البحر على الساحل، وقد أمدتنا هذه المواقع ببعض المعثورات  التي ربما ترتقي من خلال تقنياتها إلى فترة ما قبل العصر الحجري الحديث، فقد جمع بيبي وجلوب وهما من البعثة الدنماركية عينات من حجارة الكوارتز ذات ألوان تميل إلى الخضرة من جبل الحوية بالقرب من الهيلي وقد تم تصنيف هذه الأدوات إلى العصر الحجري القديم الأسفل والأوسط.

ويذكر عبد النعيم في كتابه سلسلة آثار ما قبل التاريخ وفجره في سبه الجزيرة العربية أن كلوزيو عثر على أداة حجرية على شكل ( بلطة )  عند الطرف الجنوبي من جبل مهاجر بالقرب  من مدينة العين وقد تشكلت بضربها على  على أحد أطرافها ويظهر عليها آثار الطرق على الوجهين وقد أرجعها كلوزيو إلى العصر الحجري القديم والأوسط، ولكن لم يوجد ذكرا لهذه الأاده في تقارير البعثة الفرنسية التي نقبت في كل من حفيت وهيلي خلال الفترة من 76- 1979م ، كذلك قام كلا من تكسير وأنيزو من البعثة الفرنسية بجمع معثورات حجرية اثناء المسح في مستوطنة هيلي صنفت على أنها ربما صنعت لأغراض محدده وليس للحصول على أدوات وهو أمر لم يذكر له سبب كما انه لم يذكر تاريخ محدد يمكن أن تؤرخ له هذه المعثورات بينما يرجح عبد النعيم عودتها إلى العصر الحجري القديم الأسفل والأوسط.

وقد بلغ مجموع ما عثر عليه الفريق الفرنسي من مستوطنة هيلي 8 ، 182 أداة حجرية ، منها 23 أداة جمعت من السطح و 159 أداة جمعت أثناء الحفر أو كانت مختلطة  بمعثورات المستوطنة ، وقد تألفت من رقائق حجرية ومكاشط  وأدوات متععدة الأغراض وأنصال وأدوات أخرى مشذبة. 

وفي البريمي عثر على مواقع حجرية يحتمل أنها اماكن لصنع الادوات الحجرية وكانت المادة الخام المستخدمة في صنع هذه الادوات مادة الشرت المتوفرة بكثرة حول الموقع، وقد شملت هذه الادوات شظايا مسننه ورقية الشكل ورؤوس سهام ومكاشط ومناقيش ومخارز ومناجل.

ولكن يبدو أن الكثير من هذه الأدوات والمعثورات  التي نسبت إلى فترة العصر الحجري القديم الأسفل والأوسط ليس لهاما يسندها إذ أنها في معظمها إن لم تكن جميعها، أتت من ملتقطات سطحية لا علاقة لها بمواقعها التي عثرت عليها، لذلك فإن محاولة مقارنتها بمواقع حجرية خارج نطاق المنطقة يشوبه شيء  من التعجل ، ناهيك عن الشروط والقواعد التي يجب استيفاؤها عند محاولة اعطاء تاريخ لهذه المعثورات ، كما أن هناك من يرى أن الخصائص المميزة لهذا العصر والمتمثلة في التقنية ونوع الأدوات وتشكلها وكذلك وظائفها التي عرفت في بلدان الشرق الأدنى وشمال إفريقيا لا تظهر بالصورة نفسها في مواقع عُمان .

 

 

الحجري القديم في جنوب عُمان : 

 

تعود أقدم المخلفات التي عثر عليها في جنوب عُمان إلى العصر الحجري القديم الأسفل، فقد عثرت البعثة الدنماركية وبعثة هارفارد خلال مسح منطقة عبري والجبل الأخضر ووادي هجار على مواقع سطحية تحتوي على معثورات تعود لأكثر من حقبة تاريخية، وقد شملت هذه المعثورات فؤوسا حجرية ، يعتقد أنها تعود إلى الحقبة الآشولية، كذلك أدوات شملت شظايا ومكاشط وأدوات أخرى متميزة بأطرافها الدقيقة في مواقع عويفي ونطيح ويرجح أنها تعود إلى العصر الحجري القديم الأوسط.

أما حضارة العصر الحجري القديم الأعلى في جنوب عُمان فقد تمثلت في أكثر من موقع إذ عثر على أدوات مثل النصال ورؤوس السهام ويحتفظ بعض الدارسين على التاريخ الذي أعطى لهذه المعثورات، مستدلين بعدم تطابق خصائص هذه المعثورات مع مثيلاتها في بلدان الشرق الأدنى القديم، أو لعدم بروز سمات وخصائص تميز العصر الحجري القديم الأعلى في الإقليم، لذلك نجد بعضهم يطلع على هذا العصر مسمى ( العصر الحجري القديم الأعلى المتأخر) للفترة التي سادت من 10000- 3500 ق.م وذلك تجاوزا للتداعيات التي يمكن أن يحدثها مسمى العصر الحجري القديم الأعلى في المنطقة، وينسب إلى هذا العصر مواقع بئر الكسفة ومسكين والدريز التي ربما يعتقد أنها تعود إلى فترة الحضارة الأوريجناسية الوسطى التي كشف عنها في موقع الخيام في الأردن وتحمل أوجه شبه بحضارة بير الطير في شمال أفريقيا خاصة رؤوس السهام الحجرية.

وفي منطقة ظفار عثر على مجموعات حجرية عبارة عن رؤوس سهام وشفرات ومكاشط جمع أغلبها من موقع ( قهارير ) وأرخت استنادا إلى مقارنتها بمعثورات عين قناص في المملكة العربية السعودية إلى الألف السادس وبداية الألف الخامس ق.م.

 

العصر الحجري الحديث في شمال عُمان :

 

لعل من أبرز المواقع الأثرية التي تعود إلى فترة الألف الرابع ق.م في شمال عُمان موقع القاسمية الذي تم الكشف عنه بواسطة الفريق الفرنسي 1986م وهو عبارة عن تلة أثرية تقع في وسط الشارقة ، تضم الكثير من المواقع والأصداف وعظام الأسماك وغيرها من الفضلات، كم تم تحديد أثار لسكنى مؤقتة دلت على استخدام الموقع من قبل الصيادين خلال فترة الألف الرابع ق.م. كذلك عثر على بعض الأدوات الحجرية التي استخدمها سكان الموقع، والتي تتشابه مع بعض المعثورات في مواقع قطر والسواحل الشرقية للجزيرة العربية.

واللافت أن بعض المواقع التي تم العثور عليها على ساحل عُمان لم تكن أكثر أكوام من الأصداف والقواقع البحرية والكثير من عظام الرخويات، وهو أمر فسره بعض الباحثين بأن هذه المواقع ربما شغلت خلال فترة الألف الرابع ق.م كذلك عثر على بعض الأدوات الحجرية التي استخدمها سكان الموقع والتي تتشابه مع بعض المعثورات في مواقع قطر والسواحل الشرقية للجزيرة العربية.

واللافت أن بعض المواقع التي تم العثور عليها على ساحل عُمان لم تكن أكثر من أكوام من الأصداف والقواقع البحرية والكثير من عظام الرخويات. وهو أمر فسره بعض الباحثين بأن هذه المواقع ربما شغلت خلال فترة الألف الرابع ق.م . من قبل الصيادين، حيث تدل الترسبات على تكرار رمي الفضلات وبقايا الطعام من قبل سكان الموقع، حتى تكونت أكوام من عظام الأسماك والرخويات والقواقع وغيرها من الفضلات التي تراكمت على مر السنين. 

ويميل بعض الباحثين إلى الاعتقاد بأن تواجد النفايات الصدفية بشكل أكبر من النفايات السمكية يعد دليلا على أن المجتمع كان يعتمد على عمليتي الصيد والإلتقاط في آن واحد، ذلك لعدم توافر القدرة التقنية في استغلال موارد البحر العميقة كما يرجحون العامل الآخر الذي ساعد في تكون هذه الأكوام الصدفية وهو سهولة عملية الجمع والالتقاط للأصداف والمحار والحيوانات الرخوية البسيطة، التي يعتقد أن كل أفراد المجتمع كانوا يعملون بها.

وكان الفريق الفرنسي قد أحصى في إمارة الشارقة نحو 50 موقعا أثريا استخدمت كمراكز وورش لصناعة الأدوات الحجرية. وقد أرجعت جميعها إلى فترة العصر الحجري الحديث. وقد تم تحديد الكثير من المواقع الآثرية الساحلية التي احتوت على تجمعات القواقع في هذه المنطقة. وقد تمت معاينة نحو 30 موقعا تعود إلى فترة العصر الحجري الحديث. حيث لاحظ الفريق الفرنسي المنقب وجود بيئة طبيعية لنمو الأشجار الاستوائية تحت سطح البحر والأقرب إلى الساحل، كما لاحظ الفريق ظاهرة التفاف هذه القواقع حول الأشجار الاستوائية لاعتمادها عليها في غذائها، أما السكان فقد اعتمدوا على الأسماك والأصداف والقواقع في غذائهم. 

وكان الفريق البريطاني الذي نقب في جزية مروح قد عثر على موقعين يعودان إلى فترة العصر الحجري الحديث هما : مروح 1,1 ، ومروح 2,6 ، عثر فيهما على عدد من الأدوات الحجرية التي اشتملت على رؤوس سهام وسكاكين، ومكاشط، ورأس رمح محطم. وتشير الأدلة إلى اعتماد سكان هذين الموقعين على ثروات البحر وحيواناته المختلفة كالأسماك والرخويات والقشريات في اقتصادهم المعيشي. كما عثر في المنطقة الغربية من أبوظبي في موقع حبشان عاى مجموعة من رؤوس السهام،  يعود تاريخها للألف الرابع قبل الميلاد. وهي تشبه إلى حد كبير مجموعة سهام عثر عليها في قطر مصنوعة بطريقة تدقيق بالضغط حسب تصنيف كابل. كما التقط أيضا من هذا الموقع أدوات وشظايا حجرية.

 

العصر الحجري الحديث في جنوب عُمان:

 

إن أقدم الأدلة التي أشارت إلى دخول جنوب عُمان في هذه المرحلة جاءت من موقع حبروت في منطقة ظفار، حيث عثر على أدوات حجرية حوت مكاشط طرفية وجانبية وسكاكين ومخارز وأنواع متعددة من رؤوس السهام، كما أمدنا الموقع بتسلسل طبقي امتد إلى أكثر من أربعة أمتار، وفي هذا المجال يمكن القول بأن موقع حبروت يعد أقدم المواقع التي تنتمي إلى فترة العصر الحجري الحديث وقد أرجع تاريخه إلى حوالي الألف الثامن قبل الوقت الحاضر. في حين يرى محمد علي صاحب كتاب (    ) بأن الطبقة السفلى من هذا الموقع تعد طبقة سابقة على طبقات العصر الحجري الحديث، وقد أرجعها إلى نحو الألف السادس ق.م. ويميل الباحث إلى تاريخ أقدم من التاريخ الذي يقترحه محمد علي وذلك اعتمادا على ما عثر عليه من مواقع تعود إلى هذا العصر، إضافة إلى الكثرة الواضحة من الأدوات المكتشفة التي تدل على تخصص في عملية إنتاج الغذاء النباتي كالمناجل المسننة، والتي عثر عليها على مساحة واسعة من بين الدهناء وساحل الجزيرة العربية ويظهر من تطور بعض الأدوات الحجرية في البحرين أن مستوطنات الصيادين خلال فترة العصر الحجري الحديث تحولت إلى نوع من الزراعة وذلك حين أصبح المناخ اكثر رطوبة حيث عثر على أدوات من حجر الصوان الحادة، وصغيرة الحجم وذات حلقات مسننة كالمنشار واستخدمت على ما يبدوا كمناجل للحصاد ويبدو على بعضها لمعان يدل على استخدامها في قطع الحشائش، وهو ما يوحي بمعرفة تلك المجتمعات بأساليب الزراعة وطرق إنتاجها منذ عصور مبكرة. إضافة إلى العثور على الأدوات القزمية الهندسية الشكل والمصنعة من خام الزجاج البركاني في حضرموت وهي ذات ارتباط مباشر بالمستوطنات الحضرية المبكرة، كما انها ذات علاقة بالنشاط الزراعي.

كذلك فإن المخلفات التي عثر عليها تساعد على القول بإحتمال توصل مستوطنات عُمان إلى المعرفة البدائية بالزراعة وذلك بناء على التطور في التقنية الصناعية التي تمثلت في العثور على الأدوات النصلية التي تعد تطورا مباشرا لشظايا والأدوات الحجرية السابقة عليها، إلى جانب الأدوات القزمية التي ربما تدل على مرحلة من التطور الصناعي المتصل بالحياة المستقرة.

ويعتقد الباحث بأن للظروف المناخية دورا رئيسا في تكوين تلك المجتمعات المستقرة في الفترات المبكرة للعصر الحجري الحديث، ذلك أن التحول في المناخ بدأ منذ الألف التاسع ق.م، وعندها بدأت بوادر التحسن تطرأ على منطقة الجزيرة العربية، حيث أصبح الطقس رطبا. وبدأ إنسان عُمان منذ ذلك التاريخ في التهيؤ للدخول في فترة العصر الحجري الحديث، وهي الفترة التي عرفت فيها مناطق الشرق الأدنى القديم حياةالاستقرار وتدجين حياة الحيوان والنبات. وقد كانت بوادر التطور الذي صاحب تلك المستوطنات إقليمية، أي أن الانسان في كل إقليم من منطقة الشرق كان يتطور محليا، ويبدأ في تحقيق الانتقال إلى مستويات التطور الحضاري بوحي من المقومات البيئية المحلية.

ورغم ان الكثير من الشواهد تشير إلى مساهمة الصلات الحضارية الفاعلة في تأصيل هذه النقلة التي عرفها إنسان الشرق الأدنى القديم في تلك المرحلة، إلا أن هناك من الدارسين من يحتفظ حول بداية هذه الاتصالات خلال تلك المرحلة المبكرة، وربما استدل هؤلاء بالعثور على أدوات ذات صبغة محلية صرفة، ولكن هذا لم يمنع التماثل والشبه في الكثير من الأدوات الحجرية المكتشفة في مناطق الشرق الادني واتي وجدت في أريحا في فلسطين وستيل وعقلان في لبنان وتبة الحمام في سوريا وواحة يبرين في المملكى العربية السعودية ووجد ما يماثلها في عُمان في موقع شصر وفسد وحبروت وبير الكسفة ومقشن حنوب عُمان ، وهناك ملاحظة ذات اهمية خاصة تتعلق بمكتشفات العصر الحجري الحديث في منطقة ظفار في جنوب عُمان، حيث ان هناك تشابها بينها وبين المعثورات (بي) من مواقع قطر حسب تصنيف كابل، وهو ما يوحي بوجود اتصال عبر الربع الخالي خلال فترة العصر الحجري الحديث. وعلى ساحل مسقط عثر توزي على مستوطنة عرفت بمستوطنة رأس الحمراء. حيث عثر على كم كبير من مخلفات الحيوانات البحرية من أصداف وعظام ورخويات وأدوات حجرية يبدو أنها كانت تستخدم في صيد الأسماك وقد تشكلت من الثقالات والأزاميل الخطافات والصنارات إلى جانب حلي من الأصداف كالخواتم والأساور.

وتقع هذه المستوطنة ما بين ساحل البحر ومجرى ماء غير عذب تحيط به غابات من شجر القاف، ويعد موقع المستوطنة مثاليا لما توفر لهم المصادر المائية من أسماك ورخويات يقتاتون عليها ومصدرا رئيسيا لغذاء المستوطنة، كما احتوت المعثورات  على عظام أبقار وغزلان وخراف وعظام لقطط برية. و يبدو أن المستوطنة |ذات أهمية حيث اعتبرها الدارسون نموذجا للمستوطنات الساحلية التي يعتقد أنها منتشرة على امتداد ساحل عُمان، كذلك عثر على مجموعة من المدافن ضمت نحو 23 هيكلا عظميا، وجدت هذه الهياكل بوضع القرفصاء مستلقية على أحد جانبيها باتجاه البحر والذراعان نحو الأعلى، وفي بعض الأحيان كانت الهياكل تحتضن محارة بيدها  وتطبق عليها بإحكام وفي حالة واحدة فقط، وجدت تقبض على حبه من اللؤلؤ وربما اعتبرت هذه الحبة من أقدم اللآلئ في منطقة الخليج. إلا أن أهمية الموقع تكمن في العثور على بذور من نبات الذرة وجدت في أحد منازل المستوطنة، مما يدل على تجارة بحرية كانت قائمة مع أفريقيا خلال فترة الألف الرابع ق.م، حيث أن نبات الذرة كان حتى ذلك التاريخ ينمو في أفريقيا ، وبخاصة في أثيوبيا والسودان، ولم يعرف في الهند إلا خلال الألف الثاني ق.م ، وهو مؤشر هام على وجود مجتمعات زراعية تعود بجذورها إلى فترة الألف الرابع ق.م، ناهيك عن التأكيد عن نمو التجارة المضطرد خلال تلك الفترة وبروز المحطات التجارية العُمانية التي بدأت تفرض نفسها على طريق التجارة القديم بين كلا من أفريقيا والهند وبلاد الرافدين وإيران. وقد أرخت الطبقات السفلى من هذه المستوطنة إلى منتصف الألف السادس ق.م ، وربما عاصرت الطبقات العليا منها الفترات المتأخرة من العصر الحجري الحديث خاصة أننا رأينا أن سكان المستوطنة كانوا على قدر من التنظيم المعيشي لدرجة أنهم شيدوا بيوتهم من الآجر والأخشاب والمواد النباتية الأخرى. وعلى نمط مستوطنة رأس الحمراء التي كشف عنها في مسقط، عثر فريق فرنسي إيطالي مشترك على مستوطنة رأس الجنز- 37 ، في جنوب شرق عُمان التي تبعد عن موعد رأس الجنز مسافة 5 كم من الجهة الغربية. وقد تم العثور على أدوات حجرية شملت رؤوس سهام عرفت بالرؤوس الفسدية نسبة إلى موقع فسد في جنوب الإقليم. كذلك عثر على ثقالات للشباك، وصنارات لصيد الأسماك مصنوعة من الأحجار المحليةن حيث وجدت أعداد منها مما أعطى انطباع بأن سكان الموقع كان اعتمدوا على ثروات البحر اعتمادا شبه تام. كذلك اعتمد السكان في معيشتهم على لحوم السلاحف خاصة السلاحف الخضراء، أما حيوانات البحر الأخرى مثل الحيتان والدلافين والمحار والسرطانات البحرية والقنافذ فقد استفاد منها سكان الموقع في توفير مخزون من الطعام، ويدلنا على ذلك الكميات الكبيرة من عظام الحيوانات البحرية التي وجدت في الموقع، وإلى جانب عظام الحيوانات البحرية فإن العثور على عظام للحيوانات البرية كالخراف والماعز وعظام الأبقار، يدلنا على أن الصيد البري كان يجري جنبا إلى جنب مع الصيد البحري وقد أرخ موقع رأس الجنز -37 اعتمادا على مقارنة الأدوات الحجرية التي عثر عليها، وخاصة السهام بمثيلاتها من موقع فسد جنوب عُمان الذي يعود إلى الألف السادس ق.م ، وعلى مقربة من قرية البندر الجديد الحالية، تم العثور على موقع حوى على أدوات حجرية تشابه تلك التي عثر عليها في موقع رأس الجنز، يبدوا أن سكانها اعتمدوا أيضا على ثروات البحر في اقتصادهم ومعيشتهم، إلى جانب الصيد البري الذي تقدم ذكره في موقع رأس الجنز. وقد أعطي هذا الموقع تاريخا يعود إلى الألف السادس ق.م، نظرا لمشابهة ادواته بتلك التي تم العثور عليها في كل من موقع فسد ورأس الجنز لا شك أن اكتشاف هذه المواقع الساحلية المبكرة على امتداد سواحل عُمان يجعل الدارس يتساءل حول التنظيم الذي كانت عليه هذه المجتمعات المحلية. وهل نجحت بالفعل في ايجاد الروابط الاجتماعية والاقتصادية التي أسهمت بدورها في تفعيل مكانة هذه المجتمعات خلال حقبة ما قبل التاريخ في المنطقة؟ يقول كلوزيو أن هذه  المجتمعات كانت على درجة عالية من التنظيم خاصة العلاقات الاقتصادية التي كانت تقوم عليها حرفة الصيد البحري. وقد كانت ذات كفاءة عالية مكنت هذه المجتمعات من ايجاد تنظيم اقتصادي قوامه التبادل مع المجتمعات الاخرى والاشتغال بهذه الحرفة. إن قيام هذه المستوطنات على ساحل البخر خلال هذه الحقب التاريخية المبكرة ساعد دون شك في رسم الإطار الحضاري لشعوب المنطقة، كما أنه قد صورة طبيعية ودرجة التكيف لهذه الشعوب من خلال المعثورات وارتباطها بالاقتصاد المعيشي والتبادل التجاري مع الشعوب الاخرى. وقد استخدم أصحاب هذه المستوطنات أدوات متطورة لاستغلال الموارد المحلية وقد لوحظ أن الكحل مثلا من بين المواد التي كانت تصدر من رأس الجنز إلى وادي السند وبلاد الرافدين، فقد استغل سكان رأس الجنز رواسب المنغنيز التي تعتبر مصدرا للبيرولوسيت المتوفرة في الجبال لديهم وهي المادة الخام التي يصنع منها الكحل واصباغ العيون المعاصرة.

كذلك فإن المحار والأصداف وغيرها من المواد المحلية استخدمت كمواد للتصدير إلى وادي السند وبلاد الرافدين، وقد تطلب ذلك بناء أنواع من السفن الكبيرة التي استخدمت لهذا الغرض، اضافة إلى استعمال أنواع من الجرار الفخارية الكبيرة، لغرض التخزين وحفظ المواد ومن بين المواقع التي عاصرت موقع رأس الحد بمسقط ، موقع خور الملح الذي يبعد عن مدينة قريات بنحو 1 كم، على ساحل خليج عُمان ويعتبر من المواقع التي تؤرخ لفترة الألف الرابع ق.م وهو بلا شك يشكل نمطا أخر من انماط الحياة الساحلية التي عرفتها عُمان خلال فترة عصور ما قبل التاريخ، ولعل ابرز مأثورات هذا الموقع حبة الخرز، ذات اللون الأخضر والغامق والتي تشبه إلى حد كبير مجموعة الخرز التي تم العثور عليها في موقع رأس الحمراء، إضافة إلى مجموعات من القواقع المختلفة وثقالات الشبام التي صنعت من الحجر الرملي وحجر البازلت، ومجموعة مختارة من الصنارات المصنوعة من القواقع وجدير بالذكر أن الأدوات الحجرية التي عثر عليها في الموقع كانت حمراء وبنية اللون، اضافة إلى حجر الكوارتز الأحمر والبني والأخضر.ومن المواقع الساحلية المهمة التي أمدت الباحثين بمعلومات قيمة حول أنماط المعيشة التي كانت سائدة في أوساط التجمعات السكانية الساحلية المبكرة خلال العصر الحجري الحديث، موقع رأس الجنز-2، حيث تدل شواهد الموقع وأدلته الأثرية بأنه أحد المواقع القليلة في عُمان التي استمرت فيها السكنى دون انقطاع منذ أواخر العصر الحجري الحديث حتى العصر الحديدي وقد حوت طبقات العصر الحجري الحديث، مواقد للنار وادوات حجرية وفخار محلي، واخر من واد السند، وشملت المخلفات العضوية عظام أسماك ومحار، وهو بذلك ينفي الفكرة السائدة عن موسمية الموقع وامتدادها من الخريف حتى الربيع- أي خلال موسم صيد الاسماك. ويقدم موقع رأس الجنز للباحثين نموذجا مثاليا لمستوطنات ما قبل التاريخ التي لم تكن قد غيرت وسائل معيشتها بعد. كان البحر هو المصدر الأول الذي بنت عليه المستوطنة كل تطلعاتها وأمالها فقد كشفت المستوطنة عن تنظيم جيد دلت عليه نماذج البيوت التي تم كشف عنها بنيت من الآجر وما حوته من معثورات كصنارات الصيد وثقالات الشباك والخطاطيف، وبعض الأختام النحاسية، ومجموعة من الحلي والخرز والجرار الفخارية المختلفة الأحجام. وقد تم التعرف أيضا على مجموعات من الجرار الفخارية الكبيرة الحجم التي يعتقد أنها كانت تستخدم في التجارة البعيدة المدى لحفظ المواد السائلة كالزيوت مع وادي السند وبلاد الرافدين كذلك عثر على قطع من القار والحصر والقصب والحبال، وهي من الأشياء التي تدل على بناء السفن واستخدامها لأغراض التجارة البعيدة، التي كانت قائمة على سومر وملوخه.ويعتقد أن التبادل التجاري كان يتم عن طريق المقايضة بالمحار والكحل وأصباغ الزينة، والأصداف وغيرها ومن المواد التي تصدر إلى الشعوب الأخرى في منطقة الشرق الأقصى قديما، والتي تستبدل غالبا بالمواد الغذائية التي يحتاجها سكان المستوطنة ويرجح كلا من كلوزيو وتوزي بان ازدهار المستوطنة ربما يعود للتجارة البحرية المستمرة التي نشطت بين الهند وشبه الجزيرة العربية، وهي بلا شك أساس التجارة المبكرة أو الاتصالات التجارية الأولى التي شهدها النصف الثاني من الألف الرابع ق.م، والتي اعتبرت الأساس الذي سارت عليه فيما بعد التجارة الأوسع انتشارا والتي تطورت خلال حقبة الألف الثالث ق.م، وذلك لمواكبة المتطلبات المتنامية لحضارة العصر البرونزي في منطقة الشرقين الأدنى والأوسط.

 



المصدر:https://www.atheer.om/archives

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اتفاقية السيب

قصص عمانية بين الحقيقة والخيال

حرب الجبل لأخضر (1957-1957)